فصل: تفسير الآيات (163- 164):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (140):

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
{أم تقولون} إنَّ الأنبياء من قبل أن تنزَّل التَّوراة والإِنجيل {كانوا هوداً أو نصارى} {قل أأنتم أعلم أم الله} أَيْ: قد أخبرنا الله سبحانه أنَّ الأنبياء كان دينهم الإِسلام، ولا أحدٌ أعلم منه {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} هذا توبيخٌ لهم، وهو أنَّ الله تعالى أشهدهم في التِّوراة والإِنجيل أنَّه باعثٌ فيهم محمداً صلى الله عليه وسلم من ذريَّة إبراهيم عليه السَّلام، وأخذ مواثيقهم أَنْ يُبيِّنوه ولا يكتموه، ثمَّ ذكر قصَّة تحويل القبلة.

.تفسير الآيات (142- 143):

{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
{سيقول السفهاء من الناس} يعني: مشركي مكَّة ويهود المدينة {ما ولاَّهم} ما صرفهم؟ يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {عن قبلتهم التي كانوا عليها} وهي الصَّخرة {قل لله المشرق والمغرب} يأمر بالتَّوجُّه إلى أيٍّ جهةٍ شاء {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} دينٍ مستقيمٍ. يريد: إنِّي رضيتُ هذه القِبلة لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ مدح أمَّته فقال: {وكذلك} أي: وكما هديناكم صراطاً مستقيماً {جعلناكم أمة وسطاً} عدولاً خياراً {لتكونوا شهداء على الناس} لتشهدوا على الأمم بتبليغ الأنبياء {ويكون الرسول عليكم} على صدقكم {شهيداً} وذلك أنَّ الله تعالى يسأل الأمم يوم القيامة، فيقول: هل بلَّغكم الرُّسل الرِّسالة؟ فيقولون: ما بلَّغنا أحدٌ عنك شيئاً، فيسأل الرُّسل فيقولون: بلَّغناهم رسالتك فعصوا، فيقول: هل لكم شهيدٌ؟ فيقولون: نعم، أُمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فيشهدون لهم بالتِّبليغ وتكذيب قومهم إيَّاهم، فتقول الأمم: يا ربِّ، بمَ عرفوا ذلك، وكانوا بعدنا؟ فيقولون: أخبرنا بذلك نبيُّنا في كتابه، ثمَّ يُزكِّيهم محمّدٌ صلى الله عليه وسلم. {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} أَي: التي أنتَ عليها اليوم، وهي الكعبةُ، قِبلةً {إلاَّ لنعلم} لنرى وقيل: معناه: لنميّز {مَنْ يتبع الرسول} في تصديقه بنسخ القِبلة {ممن ينقلب على عقبيه} يرتدُّ ويرجع إلى الكفر، وذلك أنَّ الله تعالى جعل نسخ القِبلة على الصَّخرة إلى الكعبة ابتلاءً لعباده المؤمنين، فمَنْ عصمه صدَّق الرَّسول في ذلك، ومَنْ لم يعصمه شكَّ في دينه وتردَّد عليه أمره، وظنَّ أنَّ محمداً عليه السَّلام في حيرةٍ من أمره، فارتدَّ عن الإِسلام، وهذا معنى قوله {وإن كانت لكبيرة} أَيْ: وقد كانت التَّولية إلى الكعبة لثقيلةً إلاَّ {على الذين هدى الله} عصمهم الله بالهداية، فلمَّا حوِّلت القبلة قالت اليهود: فكيف بمَنْ مات منكم وهو يصلِّي على القبلة الأولى؟ لقد مات على الضَّلالة، فأنزل الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أَيْ: صلاتكم التي صلَّيتم وتصديقكم بالقِبلة الأولى {إنَّ الله بالناس} يعني: بالمؤمنين {لرؤوف رحيم} والرَّأفة أشدُّ الرَّحمة.

.تفسير الآيات (144- 146):

{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}
{قد نرى تقلُّب وجهك...} الآية. كانت الكعبة أحبَّ القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى أنَّ الصَّلاة إليها أدعى لقومه إلى الإسلام، فقال لجبريل عليه السَّلام: وددتُ أنَّ الله صرفني عن قِبلة اليهود إلى غيرها، فقال جبريل عليه السَّلام: إنَّما أنا عبدٌ مثلك، وأنت كريم على ربِّك فسله، ثمَّ ارتفع جبريل عليه السَّلام وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُديم النَّظر إلى السَّماء رجاء أَنْ يأتيه جبريل عليه السَّلام بالذي سأل، فأنزل الله تعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} أَيْ: في النَّظر إلى السَّماء {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ} فلنُصَيِّرَنَّك تستقبل {قبلة ترضاها} تحبُّها وتهواها {فَوَلِّ وجهك} أَيْ: أَقبل بوجهك {شطر المسجد الحرام} نحوه وتلقاءه {وحيثما كنتم} في برٍّ أو بحرٍ وأردتم الصَّلاة {فولوا وجوهكم شطره} فلمَّا تحوَّلت القِبلة إِلى الكعبة قالت اليهود: يا محمد ما أُمرتَ بهذا، وإنَّما هو شيءٌ تبتدعه من تلقاء نفسك، فأنزل الله تعالى: {وإنَّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنَّه الحق} أنَّ المسجد الحرام قِبلة إبراهيم وأنَّه لحقٌّ {وما اللَّهُ بغافل عما تعملون} يا معشر المؤمنين مِنْ طلب مرضاتي.
{ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب} يعني: اليهود والنَّصارى {بكلِّ آية} دلالةٍ ومعجزةٍ {ما تبعوا قبلتك} لأنَّهم مُعاندون جاحدون نبوَّتك مع العلم بها {وما أنت بتابعٍ قبلتهم} حسمَ بهذا أطماع اليهود في رجوع النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم؛ لأنَّهم كانوا يطمعون في ذلك {وما بعضهم بتابعٍ قبلة بعض} أخبر أنَّهم- وإنِ اتَّفقوا في التَّظاهر على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم- مُختلفون فيما بينهم، فلا اليهود تتبع قِبلة النَّصارى، ولا النَّصارى تتبع قِبلة اليهود {ولئن اتبعت أهواءهم} أَيْ: صلَّيت إلى قِبلتهم {بعد ما جاءك من العلم} أنَّ قِبلة الله الكعبة {إنك إذاً لمن الظالمين} أيْ: إِنَّك إذاً مثلُهم، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في الظَّاهر، وهو في المعنى لأُمَّته.
{الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} يعرفون محمَّداً صلى الله عليه وسلم بنعته وصفته {كما يعرفون أبناءَهم وإنَّ فريقاً منهم ليكتمون الحق} من صفته في التَّوراة {وهم يعلمون} لأنَّ الله بيَّن ذلك في كتابهم.

.تفسير الآيات (147- 153):

{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
{الحق من ربك} أَيْ: هذا الحقُّ من ربِّك {فلا تكوننَّ من الممترين} الشَّاكِّين في الجملة التي أخبرتك بها من أمر القِبلة، وعناد اليهود وامتناعهم عن الإِيمان بك.
{ولكلٍّ} أَيْ: ولكلِّ أهل دينٍ {وجهةٌ} قِبلةٌ ومُتوجَّةٌ إليها في الصَّلاة {هو مُوَلِّيْها} وجهَه، أَيْ: مستقبلها {فاستبقوا الخيرات} فبادروا إلى القبول من الله عزَّ وجل، ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم الله تعالى {أينما تكونوا يأت بكم الله جميعاً} يجمعكم الله تعالى للحساب، فيجزيكم بأعمالكم، ثم أَكَّد استقبال القبلة أينما كان بآيتين، وهما قوله تعالى.
{ومن حيث خرجت...} الآية، وقوله: {ومن حيث خرجت فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجَّةٌ} يعني: اليهود، وذلك أنَّ اليهود كانوا يقولون: ما درى محمَّدٌ أين قِبلته حتى هديناه، ويقولون: يخالفنا محمَّدٌ في ديننا ويتَّبِع قِبلتنا، فهذا كان حجِّتهم التي كانوا يحتجُّون بها تمويهاً على الجُهَّال، فلمَّا صُرفت القِبلة إلى الكعبة بطلت هذه الحجَّة، ثمَّ قال تعالى: {إلاَّ الذين ظلموا منهم} من النَّاس، وهم المشركون فإنَّهم قالوا: توجَّه محمدٌ إلى قِبلتنا، وعلم أنَّا أهدى سبيلاً منه، فهؤلاء يحتجُّون بالباطلِ، ثمَّ قال: {فلا تخشوهم} يعني: المشركين في تظاهرهم عليكم في المُحاجَّة والمحاربة {واخشوني} في ترك القِبلة ومخالفتها، {ولأُتمَّ نعمتي عليكم} أَيْ: ولكي أَتمَّ- عطفٌ على {لئلا يكون}- نعمتي عليكم بهدايتي إيّاكم إلى قِبلة إبراهيم، فَتَتِمُّ لكم الملَّة الحنيفيَّة {ولعلكم تهتدون} ولكي تهتدوا إلى قِبلة إبراهيم.
{كما أرسلنا فيكم} المعنى: ولأتمَّ نعمتي عليكم كإرسالي إليكم رسولاً، أَيْ: أتمُّ هذه كما أتممت تلك بإرسالي {رسولاً منكم} تعرفون صدقه ونسبه {يتلو عليكم آياتنا} يعني: القرآن، وهذا احتجاجٌ عليهم؛ لأنَّهم عرفوا أنَّه أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، فلمَّا قرأ عليهم القرآن تبيَّن لهم صدقه في النُّبوَّة {ويزكيكم} أَيْ: يُعرِّضكم لما تكونوا به أزكياء من الأمر بطاعة الله تعالى.
{فاذكروني} بالطَّاعة {أذكركم} بالمغفرة {واشكروا لي} نعمتي {ولا تكفرون} أَيْ: لا تكفروا نعمتي.
{يا أيها الذين آمنوا استعينوا} على طلب الآخرة {بالصبر} على الفرائض، {والصلاة} وبالصَّلوات الخمس على تمحيص الذُّنوب {إنَّ الله مع الصابرين} أَيْ: إنِّي معكم أنصركم ولا أخذلكم.

.تفسير الآيات (154- 162):

{وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
{ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات} نزلت في قتلى بدر من المسلمين، وذلك أنَّهم كانوا يقولون لمَنْ يُقتل في سبيل الله: مات فلانٌ وذهب عنه نعيم الدُّنيا، فقال الله تعالى: ولا تقولوا للمقتولين في سبيلي هم أمواتٌ {بل} هم {أحياء} لأنَّ أرواح الشُّهداء في أجواف طيرٍ خضرٍ تسرح في الجنَّة. {ولكن لا تشعرون} بما هم فيه من النَّعيم والكرامة.
{ولنبلونكم} ولنعاملنَّكم مُعاملة المبتلي {بشيء من الخوف} يعني: خوف العدوِّ {والجوع} يعني: القحط {ونقص من الأموال} يعني: الخسران والنُّقصان في المال وهلاك المواشي {والأنفس} يعني: الموت والقتل في الجهاد والمرض والشَّيب {والثمرات} يعني: الجوائح وموت الأولاد، فمَنْ صبر على هذه الأشياء استحقَّ الثَّواب، ومَنْ لم يصبر لم يستحق. يدلُّ على هذا قوله تعالى: {وبشر الصابرين}.
{الذين إذا أصابتهم مصيبة} ممَّا ذُكر {قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} أَيْ: أموالنا لله، ونحن عبيدة يصنع بنا ما يشاء، ثمَّ وعدهم على هذا القول المغفرة.
{أولئك عليهم صلوات من ربهم} أَيْ: مغفرةٌ {ورحمة} ونعمةٌ {وأولئك هم المهتدون} إلى الجنَّة والثَّواب، والحقِّ والصَّواب. وقيل: زيادة الهدى، وقيل: هم المنتفعون بالهداية.
{إنَّ الصفا والمروة} وهما جبلان معروفان بمكَّة {من شعائر الله} أَيْ: مُتعبَّداته {فمن حجَّ البيت} زاره معظِّماً له {أو اعتمر} قصد البيت للزِّيارة {فلا جناح عليه} فلا إثم عليه {إن يطوَّف بهما} بالجبلين، وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانوا يطوفون بينهما وعليهما صنمان يمسحونهما، فكره المسلمون الطَّواف بينهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية. {ومن تطوَّع خيراً} فعل غير المفترض عليه من طوافٍ، وصلاةٍ، وزكاةٍ، وطاعةٍ {فإنَّ الله شاكر} مجازٍ له بعمله {عليم} بنيَّته.
{إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا} يعني: علماء اليهود {من البينات} من الرَّجم والحدود والأحكام {والهدى} أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعته {من بعد ما بيناه للناس} لبني إسرائيل {في الكتاب} في التَّوراة {أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} كلُّ شيءٍ إلاَّ الجنَّ والإِنس.
{إلاَّ الذين تابوا} رجعوا من بعد الكتمان {وأصلحوا} السَّريرة {وبيَّنوا} صفة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم {فأولئك أتوب عليهم} أعود عليهم بالمغفرة.
{إنَّ الذين كفروا وماتوا وهم كفَّار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} يعني: المؤمنين.
{خالدين فيها لا يخففُ عنهم العذاب ولا هم ينظرون} أَيْ: ولا هم يُمهلون للرَّجعة والتَّوبة والمعذرة، إذ قد زال التَّكليف.

.تفسير الآيات (163- 164):

{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
{وإلهكم إله واحدٌ} كان للمشركين ثلثمائةٍ وستون صمناً يعبدونها من دون الله سبحانه وتعالى، فبيَّن الله سبحانه أنَّه إِلههم، وأّنَّه واحدٌ، فقال: {وإلهكم إله واحدٌ} أَيْ: ليس له في الإِلهيَّة شريكٌ، ولا له في ذاته نظيرٌ {لا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم} كذَّبهم الله عزَّ وجلَّ في إشراكهم معه آلهةً، فعجب المشركون من ذلك، وقالوا: إنَّ محمداً يقول: {وإلهكم إله واحد} فليأتنا بآيةٍ إن كان من الصَّادقين، فأنزل الله تعالى: {إنَّ في خلق السموات والأرض} مع عظمهما وكثرة أجزائهما {واختلاف الليل والنهار} ذهابهما ومجئيهما {والفلك} السُّفن {التي تجري في البحر بما ينفع الناس} من التِّجارات {وما أنزل الله من السماء من ماء} من مطرٍ {فأحيا به الأرض} أخصبها بعد جدوبتها {وبثَّ} وفرَّق {فيها من كلِّ دابة وتصريف الرياح} تقليبها مرَّة جنوباً ومرَّة شمالاً، وباردةً وحارَّة {والسحاب المسخَّر} المُذلَّل لأمر الله {بين السماء والأرض لآياتٍ} لدلالاتٍ على وحدانية الله {لقوم يعقلون} فعلَّمهم الله عزَّ وجلَّ بهذه الآية كيفية الاستدلال على الصَّانع وعلى توحيده، وردَّهم إلى التًّفكُّر في آياته والنَّظر في مصنوعاته، ثمَّ أعلم أنَّ قوماً بعد هذه الآيات والبيِّنات يتَّخذون الأنداد مع علمهم أنَّهم لا يأتون بشيءٍ ممَّا ذكر.